فصل: تفسير الآيات (1- 18):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.سورة القيامة:

.تفسير الآيات (1- 19):

{لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15) لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)}
{لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ القيامة} أي أقسم. عن ابن عباس: و(لا) كقوله {لّئَلاَّ يَعْلَمَ} [الحديد: 29] وقوله:
في بئر لا حور سرى وما شعر

وكقوله:
تذكرت ليلى فاعترتني صبابة ** وكاد ضمير القلب لا يتقطع

وعليه الجمهور وعن الفراء: (لا) رد لإنكار المشركين البعث كأنه قيل: ليس الأمر كما تزعمون ثم قيل: أقسم بيوم القيامة. وقيل: أصله لأقسم كقراءة ابن كثير على أن اللام للابتداء و{أُقْسِمُ} خبر مبتدأ محذوف أي لأنا أقسم ويقويه أنه في (الإمام) بغير الألف ثم أشبع فظهر من الإشباع ألف، وهذا اللام يصحبه نون التأكيد في الأغلب وقد يفارقه {وَلاَ أُقْسِمُ بالنفس اللوامة} الجمهور على أنه قسم آخر. وعن الحسن: أقسم بيوم القيامة ولم يقسم بالنفس اللوامة فهي صفة ذم وعلى القسم صفة مدح أي النفس المتقية التي تلوم على التقصير في التقوى وقيل: هي نفس آدم لم تزل تلوم على فعلها التي خرجت به من الجنة، وجواب القسم محذوف أي لتبعثن دليله {أَيَحْسَبُ الإنسان} أي الكافر المنكر للبعث {أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ} بعد تفرقها ورجوعها رفاتاً مختلطاً بالتراب.
{بلى} أوجبت ما بعد النفي أي بلى نجمعها {قادرين} حال من الضمير في {نَّجْمَعَ} أي نجمعها قادرين على جمعها وإعادتها كما كانت {على أَن نُّسَوِّىَ بَنَانَهُ} أصابعه كما كانت في الدنيا بلا نقصان وتفاوت مع صغرها فكيف بكبار العظام. {بَلْ يُرِيدُ الإنسان} عطف على {أَيَحْسَبُ} فيجوز أن يكون مثله استفهاماً {لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} ليدوم على فجوره فيما يستقبله من الزمان {يَسْئَلُ أَيَّانَ} متى {يَوْمُ القيامة} سؤال متعنت مستبعد لقيام الساعة {فَإِذَا بَرِقَ البصر} تحير فزعاً وبفتح الراء: مدني شَخَصَ {وَخَسَفَ القمر} وذهب ضوؤه أو غاب من قوله {فَخَسَفْنَا بِهِ} [القصص: 81] وقرأ أبو حيوة بضم الخاء {وَجُمِعَ الشمس والقمر} أي جمع بينهما في الطلوع من المغرب أو جمعاً في ذهاب الضوء ويجمعان فيقذفان في البحر فيكون نار الله الكبرى {يَقُولُ الإنسان} الكافر {يَوْمَئِذٍ أَيْنَ المفر} هو مصدر أي الفرار من النار أو المؤمن أيضاً من الهول. وقرأ الحسن بكسر الفاء وهو يحتمل المكان والمصدر {كَلاَّ} ردع عن طلب المفر {لاَ وَزَرَ} لا ملجأ {إلى رَبِّكَ} خاصة {يَوْمَئِذٍ المستقر} مستقر العباد أو موضع قرارهم من جنة أو نار مفوّض ذلك لمشيئته، من شاء أدخله الجنة ومن شاء أدخله النار.
{يُنَبَّؤُاْ الإنسان يَوْمَئِذٍ} يخبر {بِمَا قَدَّمَ} من عمل عمله {وَأَخَّرَ} ما لم يعمله.
{بَلِ الإنسان على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} شاهد.
والهاء للمبالغة كعلامة أو أنثه لأنه أراد به جوارحه إذ جوارحه تشهد عليه، أو هو حجة على نفسه والبصيرة الحجة قال الله تعالى: {قَدْ جَاءكُمْ بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ} [الأنعام: 104] وتقول لغيرك أنت حجة على نفسك. و{بَصِيرَةٌ} رفع بالابتداء وخبره {على نَفْسِهِ} تقدم عليه والجملة خبر الإنسان كقولك: زيد على رأسه عمامة. والبصيرة على هذا يجوز أن يكون الملك الموكل عليه {وَلَوْ ألقى مَعَاذِيرَهُ} أرخى ستوره والمعذار الستر. وقيل: ولو جاء بكل معذرة ما قبلت منه فعليه من يكذب عذره. والمعاذير ليس بجمع معذرة لأن جمعها معاذر بل هي اسم جمع لها ونحوه المناكير في المنكر {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ} بالقرآن {لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} بالقرآن. وكان صلى الله عليه وسلم يأخذ في القرآن قبل فراغ جبريل كراهة أن يتفلت منه فقيل له: لا تحرك لسانك بقراءة الوحي ما دام جبريل يقرأ لتأخذه على عجلة، ولئلا يتفلت منك. ثم علل النهي عن العجلة بقوله {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ} في صدرك {وَقُرْءَانَهُ} وإثبات قراءته في لسانك، والقرآن القراءة ونحوه {وَلاَ تَعْجَلْ بالقرءان مِن قَبْلِ إَن يقضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [طه: 114] {فَإِذَا قرأناه} أي قرأه عليك جبريل فجعل قراءة جبريل قراءته {فاتبع قُرْءَانَهُ} أي قراءته عليك {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} إذا أشكل عليك شيء من معانيه.

.تفسير الآيات (20- 40):

{كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآَخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25) كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)}
{كَلاَّ} ردع عن إنكار البعث أو ردع لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن العجلة وإنكار لها عليه، وأكده بقوله {بَلْ تُحِبُّونَ العاجلة} كأنه قيل: بل أنتم يا بني آدم لأنكم خلقتم من عجل وطبعتم عليه تعجلون في كل شيء ومن ثم تحبون العاجلة الدنيا وشهواتها {وَتَذَرُونَ الآخرة} الدار الآخرة ونعيمها فلا تعملون لها والقراءة فيهما بالتاء: مدني وكوفي {وُجُوهٌ} هي وجوه المؤمنين {يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ} حسنة ناعمة {إلى رَبّهَا نَاظِرَةٌ} بلا كيفية ولا جهة ولا ثبوت مسافة. وحمل النظر على الانتظار لأمر ربها أو لثوابه لا يصح لأنه يقال: نظرت فيه أي تفكرت، ونظرته انتظرته، ولا يعدى ب (إلى) إلا بمعنى الرؤية مع أنه لا يليق الانتظار في دار القرار {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ} كالحة شديدة العبوسة وهي وجوه الكفار {تَظُنُّ} تتوقع {أَن يُفْعَلَ بِهَا} فعل هو في شدته {فَاقِرَةٌ} داهية تقصم فقار الظهر {كَلاَّ} ردع عن إيثار الدنيا على الآخرة كأنه قيل: ارتدعوا عن ذلك وتنبهوا على ما بين أيديكم من الموت الذي عنده تنقطع العاجلة عنكم وتنتقلون إلى الآجلة التي تبقون فيها مخلدين {إِذَا بَلَغَتِ} أي الروح وجاز وإن لم يجر لها ذكر لأن الآية تدل عليها {التراقى} العظام المكتنفة لثغرة النحر عن يمين وشمال جمع ترقوة {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} يقف حفص على {مَنْ} وقيفة أي قال حاضر والمحتضر بعضهم لبعض أيكم يرقيه مما به من الرقية من حد ضرب، أو هو من كلام الملائكة: أيكم يرقى بروحه أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب من الرقي من حد علم.
{وَظَنَّ} أيقن المحتضر {أَنَّهُ الفراق} أن هذا الذي نزل به هو فراق الدنيا المحبوبة {والتفت الساق بالساق} التوت ساقاه عند موته. وعن سعيد بن المسيب: هما ساقاه حين تلفان في أكفانه. وقيل: شدة فراق الدنيا بشدة إقبال الآخرة على أن الساق مثل في الشدة. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: هما همّان: همّ الأهل والولد وهمّ القدوم على الواحد الصمد {إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المساق} هو مصدر ساقه أي مساق العباد إلى حيث أمر الله إما إلى الجنة أو إلى النار {فَلاَ صَدَّقَ} بالرسول والقرآن {وَلاَ صلى} الإنسان في قوله: {أَيَحْسَبُ الإنسان أَلَنْ نَّجْمَعَ عِظَامَهُ} [القيامة: 3] {ولكن كَذَّبَ} بالقرآن {وتولى} عن الإيمان أو فلا صدق ماله يعني فلا زكاه {ثُمَّ ذَهَبَ إلى أَهْلِهِ يتمطى} يتبختر وأصله يتمطط أي يتمدد لأن المتبختر يمد خطاه فأبدلت الطاء ياء لاجتماع ثلاثة أحرف متماثلة.
{أولى لَكَ} بمعنى ويل لك وهو دعاء عليه بأن يليه ما يكره {فأولى * ثُمَّ أولى لَكَ فأولى} كرر للتأكيد كأنه قال: ويل لك فويل لك ثم ويل لك فويل لك.
وقيل: ويل لك يوم الموت، وويل لك في القبر، وويل لك حين البعث، وويل لك في النار. {أَيَحْسَبُ الإنسان أَن يُتْرَكَ سُدًى} أيحسب الكافر أن يترك مهملاً لا يؤمر ولا ينهى ولا يبعث ولا يجازى؟ {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مّن مَّنِىٍّ يمنى} بالياء: ابن عامر وحفص أي يراق المني في الرحم، وبالتاء يعود إلى النطفة {ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً} أي صار المني قطعة دم جامد بعد أربعين يوماً {فَخَلَقَ فسوى} فخلق الله منه بشراً سوياً {فَجَعَلَ مِنْهُ} من الإنسان {الزوجين الذكر والأنثى} أي من المني الصنفين {أَلَيْسَ ذَلِكَ بقادر على أَن يُحْيِىَ الموتى} أليس الفعّال لهذه الأشياء بقادر على الإعادة؟ وكان صلى الله عليه وسلم إذا قرأها يقول: «سبحانك بلى» والله أعلم.

.سورة الإنسان:

مكية وهي إحدى وثلاثون آية.

.تفسير الآيات (1- 18):

{هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآَنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18)}
{هَلْ أتى} قد مضى {عَلَى الإنسان} آدم عليه السلام {حِينٌ مّنَ الدهر} أربعون سنة مصوراً قبل نفخ الروح فيه {لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً} لم يذكر اسمه ولم يدر ما يراد به لأنه كان طيناً يمر به الزمان ولو غير موجود لم يوصف بأنه قد أتى عليه حين من الدهر. ومحل {لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً} النصب على الحال من الإنسان أي أتى عليه حين من الدهر غير مذكور {إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان} أي ولد آدم، وقيل الأول ولد آدم أيضاً و{حِينٌ مِّنَ الدهر} على هذا مدة لبثه في بطن أمه إلى أن صار شيئاً مذكوراً بين الناس {مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} نعت أو بدل منها أي من نطفة قد امتزج فيها الماآن. ومشجه ومزجه بمعنى و{نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} كبرمة أعشار فهو لفظ مفرد غير جمع ولذا وقع صفة للمفرد {نَّبْتَلِيهِ} حال أي خلقناه مبتلين أي مريدين ابتلاءه بالأمر والنهي له {فجعلناه سَمِيعاً بَصِيراً} ذا سمع وبصر.
{إِنَّا هديناه السبيل} بيّنا له طريق الهدى بأدلة العقل والسمع {إِمَّا شَاكِراً} مؤمناً {وَإِمَّا كَفُوراً} كافراً حالان من الهاء في {هديناه} أي إن شكر وكفر فقد هديناه السبيل في الحالين أو من السبيل أي عرّفناه السبيل إما سبيلاً شاكراً وأما سبيلاً كفوراً. ووصف السبيل بالشكر والكفر مجاز. ولما ذكر الفريقين أتبعهما ما أعد لهما فقال: {إِنَّا أَعْتَدْنَا للكافرين سلاسلا} جمع سلسلة بغير تنوين: حفص ومكي وأبو عمرو وحمزة، وبه ليناسب {أغلالا وَسَعِيراً} إذ يجوز صرف غير المنصرف للتناسب: غيرهم {وأغلالا} جمع غُلٍّ {وَسَعِيراً} ناراً موقدة. وقال: {إِنَّ الأبرار} جمع بر أو بار كرب وأرباب وشاهد وأشهاد وهم الصادقون في الإيمان أو الذين لا يؤذون الذرّ ولا يضمرون الشر {يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ} خمر فنفس الخمر تسمى كأساً. وقيل: الكأس الزجاجة إذا كان فيها خمر {كَانَ مِزَاجُهَا} ما تمزج به {كافورا} ماء كافور وهو اسم عين في الجنة ماؤها في بياض الكافور ورائحته وبرده {عَيْناً} بدل منه {يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله} أي منها أو الباء زائدة أو هو محمول على المعنى أي يلتذ بها أو يروي بها. وإنما قال أولاً بحرف (من) وثانياً بحرف الباء لأن الكأس مبتدأ شربهم وأول غايته، وأما العين فيها يمزجون شرابهم فكأنه قيل: يشرب عباد الله بها الخمر {يُفَجّرُونَهَا} يجرونها حيث شاءوا من منازلهم {تَفْجِيرًا} سهلاً لا يمتنع عليهم.
{يُوفُونَ بالنذر} بما أوجبوا على أنفسهم، وهو جواب (من) عسى أن يقول: ما لهم يرزقون ذلك؟ والوفاء بالنذر مبالغة في وصفهم بالتوفر على أداء الواجبات لأن من وفّى بما أوجبه على نفسه لوجه الله كان بما أوجبه الله عليه أوفى {ويخافون يَوْماً كَانَ شَرُّهُ} شدائده {مُسْتَطِيراً} منتشراً من استطار الفجر {وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبِّهِ} أي حب الطعام من الاشتهاء والحاجة إليه أو على حب الله {مِسْكِيناً} فقيراً عاجزاً عن الاكتساب {وَيَتِيماً} صغيراً لا أب له {وَأَسِيراً} مأسوراً مملوكاً أو غيره.
ثم عللوا إطعامهم فقالوا:
{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله} أي لطلب ثوابه أو هو بيان من الله عز وجل عما في ضمائرهم، لأن الله تعالى علمه منهم فأثنى عليهم وإن لم يقولوا شيئاً {لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً} هدية على ذلك {وَلاَ شُكُوراً} ثناء وهو مصدر كالشكر {إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا} أي إنا لا نريد منكم المكافأة لخوف عقاب الله على طلب المكافأة بالصدقة، أو إنا نخاف من ربنا فنتصدق لوجهه حتى نأمن من ذلك الخوف {يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً} وصف اليوم بصفة أهله من الأشقياء نحو: نهارك صائم. والقمطرير الشديد العبوس الذي يجمع ما بين عينيه.
{فوقاهم الله شَرَّ ذَلِكَ اليوم} صانهم من شدائده {ولقاهم} أعطاهم بدل عبوس الفجار {نَضْرَةً} حسناً في الوجوه {وَسُرُوراً} فرحاً في القلوب {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ} بصبرهم على الإيثار. نزلت في علي وفاطمة وفضة جارية لهما، لما مرض الحسن والحسين رضي الله عنهما نذروا صوم ثلاثة أيام فاستقرض علي رضي الله عنه من يهودي ثلاثة أصوع من الشعير، فطحنت فاطمة رضي الله عنها كل يوم صاعاً وخبزت فآثروا بذلك ثلاثة عشايا على أنفسهم مسكيناً ويتيماً وأسيراً ولم يذوقوا إلا الماء في وقت الإفطار. {جَنَّةً} بستاناً فيه مأكل هنيء {وَحَرِيراً} ملبساً بهياً {مُتَّكِئِينَ} حال من (هم) في {جزاهم} {فِيهَا} في الجنة {على الأرآئك} الأسرة جمع الأريكة {لاَ يَرَوْنَ} حال من الضمير المرفوع في {مُتَّكِئِينَ} غير رائين {فِيهَا} في الجنة {شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً} لأنه لا شمس فيها ولا زمهرير فظلها دائم وهواؤها معتدل، لا حر شمس يحمي ولا شدة برد تؤذي. وفي الحديث: «هواء الجنة سجسج لا حر ولا قرّ» فالزمهرير البرد الشديد. وقيل: القمر أي الجنة مضيئة لا يحتاج فيها إلى شمس وقمر {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظلالها} قريبة منهم ظلال أشجارها عطفت على جنة أي وجنة أخرى دانية عليهم ظلالها كأنهم وعدوا بجنتين لأنهم وصفوا بالخوف بقوله: {إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبّنَا} {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] {وَذُلِّلَتْ} سخرت للقائم والقاعد والمتكئ وهو حال من {دَانِيَةٌ} أي تدنو ظلالها عليهم في حال تذليل قطوفها عليهم، أو معطوفة عليها أي ودانية عليهم ظلالها ومذللة {قُطُوفُهَا} ثمارها جمع قطف.
{تَذْلِيلاً * وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِئَانِيَةٍ مّن فِضَّةٍ} أي يدير عليهم خدمهم كئوس الشراب. والآنية جمع إناء وهو وعاء الماء {وَأَكْوابٍ} أي من فضة جمع كوب وهو إبريق لا عروة له {كَانَتْ قَوَارِيرَاْ} (كان) تامة أي كونت فكانت قوارير بتكوين الله نصب على الحال {قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ} أي مخلوقة من فضة فهي جامعة لبياض الفضة وحسنها وصفاء القوارير وشفيفها حيث يرى ما فيها من الشراب من خارجها. قال ابن عباس رضي الله عنهما: قوارير كل أرض من تربتها وأرض الجنة فضة. قرأ نافع والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر بالتنوين فيهما. وحمزة وابن عامر وأبو عمرو وحفص بغير تنوين فيهما. وابن كثير بتنوين الأول والتنوين في الأول لتناسب الآي المتقدمة والمتأخرة، وفي الثاني لإتباعه الأول. والوقف على الأول قد قيل ولا يوثق به لأن الثاني بدل من الأول {قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً} صفة ل {قَوارِيرَ مِن فِضَّةٍ} أي أهل الجنة قدروها على أشكال مخصوصة فجاءت كما قدروها تكرمة لهم، أو السقاة جعلوها على قدر ريّ شاربها فهي ألذ لهم وأخف عليهم. وعن مجاهد: لا تفيض ولا تغيض.
{وَيُسْقَوْنَ} أي الأبرار {فِيهَا} في الجنة {كَأْساً} خمراً {كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً * عَيْناً} بدل من {زَنجَبِيلاً} {فِيهَا} في الجنة {تسمى} تلك العين {سَلْسَبِيلاً} سميت العين زنجبيلاً لطعم الزنجبيل فيها، والعرب تستلذه وتستطيبه. وسلسبيلاً لسلاسة انحدارها وسهولة مساغها. قال أبو عبيدة: ماء سلسبيل أي عذب طيب.